
يجلس أمام المكتب فى عيادته تلك واضعا يديه خلف راسه محاولا الاسترخاء فى تلك الدقائق قبل دخول المريض التالى إليه .. يدلف الممرض ليضع أمامه ورقة بها بيانات المريض التالى ، يقرأ الاسم و السن .. " رويدة سليمان " 35 عاما .. يجذبه الاسم إلى ذكرى مضى عليها أكثر من ستة عشر عاما .. يفتح عينيه عن آخرهما ، يعيد قراءة السن .. " 35 عاما ..! " إنه نفس سنه تقريبا .. هل تكون هى ؟! محال .. فهو يعرفها جيدا ، لا تظهر أبدا ضعفها أو ضغطها النفسى لأى شخص فهى قد تتمزق من الحزن و لكن هيهات أن تصارح أحد بذلك .. فليس من المعقول حتى أن تفكر فى الذهاب لطبيب نفسى مثله حتى بعد أن انتشر الطب النفسى فى مصر و أصبح علما ليس منه حرج كما كان فى الماضى ..
تدخل السيدة من الباب لتنتزعه من شكوكه تلك .. ينهض من مكانه فى لهفة و يسرع للباب لاستقبالها و كأنها لازالت تلك المحبوبة التى لا يطيق بعدها عنه للحظة أبدا .. يصافحها بحرارة و تلتقى أعينهما فتخفض هى عينيها فى مزيج من الخجل و الاستسلام و الحزن .. و لكنه يظل معلقا عينيه عليها فى أسف و عتاب و أيضا خوف و حزن على ما فات ..
إنها هى ، رغم مرور السنين مازالت وردة مضيئة تملأ من يراها نورا و حبا .. لا زال يراها تلك الفتاة الجميلة ذات الوجه البرىء و الابتسامة الخجلى عندما يغازلها و يثنى على جمالها .. كم عشق تلك الابتسامة و كم تعمد إحراجها ليرى تورد وجنتيها فيمتلأ نشوة و رضا لوجودها بجانبه ..
يترك يدها و يشير لها بالدخول و الجلوس أمام المكتب ليعرف منها سبب مجيئها ..
آخر ما يعرفه عنها هو زواجها من شاب ميسور الحال سحره جمالها و تقدم لخطبتها فوافقت و اعتقد البعض أنهم تزوجوا عن قصة حب ، و توقع البعض أنه زواج صالونات ليس إلا .. و لكنها ظلت صامتة كالعادة و لم يعرف أحد الحقيقة .. فدائما ما حاوطتها هالة من الغموض لم يستطع أحد اختراقها أبدا ، كان لذلك سحره الخاص على كل من يعرفها و يحاول التقرب منها .. حتى هو لم يستطع الجزم بنيتها فى مواقف كثيرة و كان لذلك بعض الاثر فى انفصالهما ..
بدأت بالكلام بعد السؤال عن حالها و حال الحياة معها .. بدأت تحكى ما حدث بعد انفصالهما و فشل حبهما .. لم تنس يوما جرحها .. لم تستطع يوما أن تحب رجلا آخر بهذه القوة ، قررت أن تتزوج مثل باقى الفتيات عندما جاء العريس المناسب قبلت به و كعادتها بشخصيتها القوية و عنادها استطاعت أن توهم الجميع أنها نسيت كل ما فات و أنها تحيا مثل أى فتاة ، لكن هيهات .. إن الحب لا يأتى إلا مرة واحدة .. حاولت أنتحب ذلك الرجل الذى عشقها و بالفعل أعطاها الكثير ، و لكن كما يقولون " القلب و ما يريد " .. قررت أن تثبت ذاتها و أن تنهمك فى العمل حتى تنسى كل ما فات .. لم يكن سعبا عليها اقناع زوجها أو إرغامه على الموافقة على عملها فهى ذات شخصية قوية جبارة لم تخضع يوما لأحد .. يتعجب كيف كانت تخضع له بحب و إخلاص و تتفانى فى محاولة إطاعته و إسعاده ..
يهتز قلبه ألما ، بقدر ما فرح لرؤيتها بقدر ما تألم لمعرفة أنها لم تنسى حبهما و فشله .. فقد تركها مطمئنا إلى أنها قوية ، عنيدة ، مشاكسة .. لا تقبل أبدا أن يهزمها الجرح أو الحب ، و أنها لن تذكره بعد سنة واحدة .. و عاش هو معذب بشوقه لهاحتى جاء خبر زواجها ليقطع آخر صلة له بوطنه فيقرر تنفيذ رغبته القديمة فى الهجرة .. كم تمنى أن تكون معه فى كندا حيث غرس نفسه هو الآخر فى العمل و فى تحقيق أحلامه .. فإذا كان حلمه الأكبر قد كتب عليه الوأد رضيعا فى الوحل فلا يجب أن تضيع كل أحلامه ، انهمك يدرس و يعمل فى المجال الذى عشقه و الذى تمنى أن يجعلها يوما تفخر به فى مجال الطب النفسى .. بالفعل أثبت جدارته و حصل على شهادات و جوائز عالمية ثم عاد لمصر لتحتفل به جامعته .. و ليفخر به كل الناس إلا واحدة .. كم تمنى ألا يفخر به أحد غيرها فى تلك اللحظة .. كم تمنى أن تكون معه و لا يهمه بعدها أى شىء مما حققه ..!
فى تلك اللحظة دمعت عيناه و هو يتسلم شهادة الدتوراه الفخرية من رئيس الجامعة ، ظن الناس أنها دموع الفرح و لكنها لم تكن يوما دموع فرح .. إنما هى دموع الحزن على فراقها الذى طال ..
تعاود الكلام .. بالفعل نجحت هى الأخرى فى عملها و هذا شىء مفروغ منه .. فطالما عرفها بالمثابرة و العناد ، أصبحت طبيبة أطفال ناجحة ، و لكن .. إنها تمثال منمق لإنسان حزين ، تشعر أنها تظلم كل من حولها .. تظلم زوجها الذى لا يدخر جهدا لإرضائها و مع ذلك فهى لم تحبه يوما .. تظلم أبناءها الذين لا تجد وقتا لرعايتهم بسبب انهماكها فى العمل .. تقول أن إحدى صديقاتها نصحتها بالتوجه له لأنه أفضل طبيب فى تخصصه و أنها ترددت كثيرا فى الذهاب غليه و لكنها قررت أخيرا أن تذهب ل " كارم أحمد " الطبيب و ..
سكتت فجأة و نظرت للأرض بخجل و شجن .. فهم كمالة الجملة دون أن تنطقها فهى قد أتت ل " كارم أحمد " الطبيب و ليس الحبيب .. تذكر أنه طبيب و أنها حالة جاءت طلبا للمساعدة .. يشير لها بالتوجه للفراش الطبى محاولا إخراج تلك الذكريات من رأسه .. تتمدد أمامه منتظرة ، و لكنه لم ينطق بكلمة .. ظل جالسا ينظر إليها و قد دار عراك عنيف بين المحب المشتاق و الطبيب المحايد .. حاول أن يستجمع خبرته كطبيب ليبدأ الكلام ، و أخيرا نطق لسانه ليقول لها " علاجك ليس عندى و إنها اذهبى لأى طبيب آخر فهو أقدر على مساعدتك منى أنا " و اشار لها أن تنهض و هى فى ذهول مما جرى .. نظرت إليه باحتقار و خوف و ذهول و كأنها تقول له هلى تابى مساعتدى حتى تستمتع بكونى معذبة بسببك ؟! حرك عينيه للأرض رغبة عن مواجهتها .. تمشى غلى الباب فى سكوت ذاهل و هو يرمقها بعينيه حتى تصل للباب و تفتحه ، يقول فى نفسه " آسف يا حبيبتى .. ليس بيدى حل آخر " خذلها قديما كحبيب و يخذلها الآن كطبيب ..!